مقالات د/ ياسر حسان

مقال بقلم د/ ياسر حسان:هل نعيش آخر 25 يومًا من الديمقراطية الأمريكية؟

 

كلما ازداد يأس ترامب، أصبحت تجاوزاته أكثر فظاعة، وآخرها هي الدعوة إلى محاكمة خصومه وإدانتهم تزامناً مع هبوطه في استطلاعات الرأي.


هذه الأفعال تجدها فقط في كتاب تاريخ الحكم الاستبدادي ويجب أن تكون علامة واضحة لما سيأتي إذا فاز ترامب بولاية جديدة.. فهل ستكون هذه آخر 25 يومًا للديمقراطية الأمريكية؟

أدرك ترامب منذ فترة طويلة أنه من غير المرجح أن يفوز في الانتخابات بالوضع الحالي، وأن غالبية الأمريكيين لا يدعمونه رغم أنهم لم يفعلوا ذلك في المرة الأولى، كل الأحداث المتوقعة تقود إلى اتجاه غير مفهوم. 
حدث الشيء نفسه مع جورج دبليو بوش حين خسر الانتخابات أمام كلينتون، وكان ذلك نذير شؤم لما سيحدث في المستقبل.
انقسمت أمريكا وتم تصنيفها وقتها على أنها ديمقراطية معيبة -على وجه التحديد- لأنها تعتمد نظام "مجمع انتخابي" غامضاً، مع شعور عام بوجود بقايا للعبودية والفصل العنصري المصممة لتمكين ملاك الأراضي الأثرياء، وهذا النظام يقف ضد رغبات الأغلبية، الذين يريدون مجتمعًا يشبه كندا أو أوروبا أكثر من ولاية تكساس الفاشلة.
وهكذا فإن ما تطور خلال الأشهر القليلة الماضية -وعلى مدى العقود العديدة الماضية مع الحزب الجمهوري- هو ما يبدو وكأنه استراتيجية معقدة ومعدة سلفاً لإفشال الديمقراطية نفسها، وسرقة الانتخابات. هذه ليست مبالغة فإن عناصر هذا الأمر واضحة للعيان، لأولئك الذين يهتمون بالنظر إلى الشأن الأمريكي بوضوح.
ويبدو أن الأمريكيين يفهمون تمامًا أنهم يعيشون في مجتمع استبدادي الآن، وأنهم كانوا كذلك منذ فترة. عندما سلمت المحكمة العليا الفوز لبوش، كان ذلك تطوراً رئيسياً في مرحلة الاستبداد.. واستمر عندما تم رفض التحذيرات من انتهاكات ترامب للسلطة القادمة في عام 2016، عندما تعرضت هيلاري للهجوم بسبب "رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بها"، انشغل الجميع بينما كان ترامب منشغلاً بالدعوة إلى إلقاء القبض على المهاجرين واللاجئين واليهود والمسلمين وكل من لم يكن أميركيًا "حقيقيًا".
ومع ذلك، فإن ما قبل الاستبداد ليس مجرد ظاهرة سياسية.. إنه أيضًا نوع من التيار الثقافي والاجتماعي الذي يجتاح أمريكا والعالم الآن. الأمريكيون يعرفون في جميع أنحاء العالم بوحشيتهم وقسوتهم ولامبالاتهم -وكلها مؤشرات شديدة لوميض أحمر على ما قبل الاستبداد. 
الأطفال يطلقون النار على بعضهم البعض في المدارس، شيء لا يحدث في أي مكان آخر في العالم، على سبيل المثال في باكستان يمكنك شراء بنادق من أسواق السلاح لكن لا أحد يطلق النار على المدارس. 
الناس في أمريكا يضطرون إلى التسول من الغرباء عبر الإنترنت لدفع ثمن الأدوية الأساسية؟ أجيال أصيبت بالشلل بسبب الديون المستحقة الدفع، بدءًا من "ديون الغداء"، لتصبح "ديون الطلاب"، ثم تتحول إلى "بطاقة ائتمان" و"ديون طبية".. ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن أمريكا بلد يعاني من أزمة اجتماعية وثقافية عميقة.
انفجار أمريكا في أزمة اجتماعية وثقافية ليس من قبيل الفجأة، لقد ظل الاتحاد السوفييتي في حالة ركود لمدة ثلاثين عامًا، وكان ذلك كافياً لتقسيمه إلى دول صغيرة، كثير منها اليوم دول استبدادية فاشلة.
ركود أمريكا لمدة خمسين، هذا ما يقرب من ضعف المدة، نصف قرن حيث لم يرتفع متوسط الدخل بالفعل. في غضون ذلك، ارتفعت أسعار الأساسيات تمامًا عن السيطرة، وأصبحت لا يمكن تحملها بشكل قاطع. سيكلفك التعليم بقدر ما يكلفك المنزل، وبالتالي ستصاب بالمرض، الغذاء والمياه والمرافق تكلف أكثر بكثير مما تكلفه في المجتمعات الغنية أو الفقيرة.
كانت نتيجة هذا الاضطراب ركوداً في الدخل في حين ارتفعت الأسعار إلى مبالغ يجدها العالم بأسره مذهلة ولا تصدق -مثل 50 ألف دولار للولادة. إن الطبقة الوسطى الأمريكية انهارت أخيرًا.
اليوم يموت الأمريكي العادي ولديه ديون تبلغ 62 ألف دولار، وهذا أمر غير طبيعي بالنسبة للاقتصاد المنضبط، إن الأمر أشبه بمريض لا يستطيع التنفس وعلى وشك الدخول في سكتة قلبية. لا يوجد شيء -ولا أعني شيئًا- أكثر إثارة للقلق في عالم الإحصاءات الاجتماعية والأرقام الاقتصادية من أمة تموت في ديون جماعية.
ماذا يحدث للمجتمعات حيث يموت الناس في الديون الجماعية؟ الديون التي لم يتمكنوا من سدادها اصلاً؟ متى تقع أجيال كاملة ضحية لذلك الفشل؟
 
هذه بالضبط قصة فايمار ألمانيا.. إنها أيضًا قصة روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، وقصة العالم الإسلامي.
لماذا؟ ما هي العلاقة بين الاقتصاد المنهار والمجتمع المنهار؟
هكذا تموت المجتمعات وتنهار الأمم؛ فانهيار الاقتصاد، ينتج عنه انعدام للثقة، الأمر الذي ينتج عنه انهيار سياسي، عن طريق التفكك الاجتماعي.
لكن كيف يحدث التفكك الاجتماعي؟
إذا كنت لا تستطيع تغطية نفقاتك، مهما حاولت جاهدًا، فأنت تعيش حياة الذعر واليأس والقدرية والعدمية. أنت غاضب دائمًا، مسدس بشري بزناد جاهز للهجوم. 
لقد حرمت من الأساسيات، وحرمت معها من راحة البال.. حينها تذهب الثقة وتبدأ عملية التفكك المجتمعي ويتولد الشك، الشك في جيرانك الذين كانوا أصدقاء في السابق، ويصبح الجميع مجرد خصم في معركة مريرة يائسة من أجل البقاء. 
القبيلة تنقلب على القبيلة، المجموعة في المجموعة، وفوق كل ذلك تتقدم النخب السياسية الفاشلة مبتسمة راضية، لأن الجماهير الآن أضعف من أن تعمل حتى من أجل نفسها. انقطعت الروابط بينهما، وبالتالي لا يمكن اتخاذ إجراء جماعي.
عاجلاً أم آجلاً، سيأتي شخص ما يلوم الأقليات المكروهة بالفعل على كل هذا، ويجعل اليهود والمسلمين والمكسيكيين واللاجئين والمهاجرين كبش فداء لمشاكل الأمريكيين "الحقيقيين". وهذا بالضبط ما حدث؛ حيث قاد ترامب حركة فاشية ضد أصوات الاستبداد للأقليات الامريكية.
هذه الانتخابات هي الفرصة الأخيرة لأمريكا.. إذا فاز ترامب أو بقي في السلطة بفضل التحديات القانونية والمحكمة العليا وترهيب الناخبين وقمعهم -إذا فاز- ومهما كانت الطريقة التي يفوز بها، فإن أمريكا قد انتهت.. سيكتمل التحول إلى مجتمع استبدادي كامل.
قد تكون هذه آخر 25 يومًا من الديمقراطية الأمريكية.. أمريكا تتصدى الآن لكل أخطائها، التي بلغت ذروتها في رجل واحد هو "ترامب".