مقال بقلم د/ ياسر حسان: هل يحل نموذج النمو الاقتصادي محل نموذج الأسواق الناشئة؟

هل يحل نموذج النمو الاقتصادي محل نموذج الأسواق الناشئة
هل يحل نموذج النمو الاقتصادي محل نموذج الأسواق الناشئة

 

قبل أربعين عامًا طرح "أنطوان فان أجتمايل" -الاقتصادي في مؤسسة التمويل الدولية- فكرة إنشاء "صندوق أسهم العالم الثالث" لدعم مديري الصناديق المتشككين، وكان الهدف هو تقديم عرض متنوع للبلدان سريعة النمو خارج العالم الغني.


منذ ذلك الحين دخل مفهوم الأسواق الناشئة إلى الاستثمار العالمي من هذا الباب، واكتسبت البلدان الناشئة والنامية بشكل إجمالي نفوذًا اقتصاديًا واستثماريًا، لكن الفوارق الشاسعة والمتباينة بين دول الأسواق الناشئة تجعل تجميعهم جميعًا في فئة واحدة أمرًا يحتاج إلى مراجعة بشكل متزايد.

كيف يمكن أن يبدو إطار العمل الجديد للاستثمار خارج العالم الغني؟

في أوائل الثمانينات شكلت البلدان الناشئة والنامية -وفقًا لمؤسسة النقد الدولي- حوالي 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. اليوم يمثلون حوالي 40٪ وأكثر من 20٪ من إجمالي رأس مال السوق العالمي. وارتفعت القيمة السوقية لمؤشر MSCI للأسواق الناشئة كحصة من المقياس العالمي بمقدار 13 ضعفًا.

ومع ذلك فإن الأوضاع الاقتصادية للبلدان الناشئة تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا. لنأخذ على سبيل المثال مؤشر MSCI للأسواق الناشئة، في عام 1988 عندما تم إطلاق المقياس تراوح دخل الفرد في البلدان التي تم تضمينها داخل المؤشر من 1123 دولارًا في تايلاند إلى 7598 دولارًا في اليونان.

في عام 2019 كان المدى بين أقل دخل وأعلى دخل أكثر من أربعة أضعاف عام 1988، حيث امتد من 2100 دولار في الهند إلى 31846 دولارًا في كوريا الجنوبية، كما ترتبط ثروات بعض الاقتصادات مثل البرازيل وروسيا بتقلبات أسواق السلع، وعلى النقيض من ذلك فإن تلك الموجودة في شرق وجنوب شرق آسيا مدعومة بالتصنيع.

التعريف الحالي للأسواق الناشئة لا ينتبه لمثل هذه الأمور، ويعتقد معظم الاقتصاديين -بما في ذلك العديد من المستثمرين- أن تصنيف الدولة بين ناشئة ومغنية يتعلق بمستويات الدخل. لكن مقيمي المؤشرات يفكرون أيضًا فيما إذا كان التداول في الأسواق عديم الاحتكاك كما هو الحال في العالم الغني. في النظرية الاقتصادية فإن السوق الخالية من الاحتكاك هي سوق مالي بدون تكاليف معاملات، والاحتكاك هو نوع من عدم اكتمال السوق.

وهذا هو السبب في أنه على الرغم من ثراء كوريا الجنوبية وتايوان إلا أن أسواقهما لا تعتبر "متطورة"، والنتيجة هي أن مجموعة قائمة الدول الناشئة شديدة التمركز جغرافياً، حيث تشكل دولتا شرق آسيا معًا (كوريا الجنوبية وتايوان) حوالي 27٪ من مؤشر MSCI للأسواق الناشئة.

فكيف نقيم إذن أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم و40٪ من الاقتصاد العالمي؟

الاعتماد على الجغرافيا أضعف قليلاً من تصنيف الأسواق الناشئة، فالأسواق التركية والسعودية على سبيل المثال لديهما القليل من القواسم المشتركة. وهناك نهج آخر يتمثل في تقسيم البلدان حسب الدخل، لكن هذا أيضًا يمكن أن تكون له نتائج غريبة. فئة الدخل المنخفض على سبيل المثال ستجمع بين الأماكن التي فشلت في التطور لعقود مع تلك التي يمكن أن تحلق قريبًا.. فمثلاً تتمتع جمهورية الكونغو وفيتنام بمستويات متشابهة من الدخل للفرد، لكنهما يشتركان في القليل من الصفات الاقتصادية الأخرى.

تتمتع الكويت وتايوان بثراء كبير مثل بعضهما البعض، لكن أسواقهما تختلف اختلافًا كبيرًا ومستويات الدخل لا تعكس وحدها الكثير عن اقتصاد الدول.

ربما يكون النموذج الواعد أكثر من غيره هو التفكير في البلدان من حيث أنماط النمو الخاصة بكل دولة. سينطبق هذا الإطار على الاقتصادات الناشئة الكبيرة المألوفة، وكذلك على الأسواق "الحدودية" وهو مصطلح يطلق على نوع من اقتصاد السوق الخاص ببلد نامٍ وأكثر تطوراً من البلدان الأقل نمواً، ولكنه مع ذلك صغير جدًا أو محفوف بالمخاطر أو غير نشط بحيث لا يمكن تصنيفه عمومًا على أنه اقتصاد سوق ناشئ.

في هذه الحالة يمكن للمستثمرين الذين يرغبون على سبيل المثال في التعرف على شركات الطاقة الموجهة نحو التصدير أن يتجهوا ليس فقط إلى الصين وكوريا الجنوبية وتايوان، ولكن أيضًا إلى الدول التي تتبنى أيضاً نفس النموذج، مثل بنجلاديش وفيتنام. صحيح أن فرص شركات هذه الدول لا تزال ضئيلة مقارنة مع القيمة السوقية للشركات العاملة في دول مثل الصين وكوريا وتايوان والتي تبلغ حالياً حوالي 16 تريليون دولار. لكن إضافتهم أمر منطقي لأنهم بالفعل مستفيدون من ارتفاع الأجور الصينية، ويمكن أن يتوسعوا في التصنيع المتقدم تقنيًا في المستقبل.

ويمكن أن تشمل الفئة الثانية البلدان التي تعتمد على النمو الذي تقوده الخدمات، وسوف تكون الهند وإندونيسيا مرشحين محتملين، وقد تكون كينيا في أفريقيا سوقًا مبتدئًا يستحق النظر إليه. ويمكن أن تشمل المجموعة الثالثة مصدري السلع الأساسية، مثل البرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا.

وقد تراجعت عوائد هذه المجموعة على مدى العقد الماضي وتقلصت كنسبة من مؤشرات الأسواق الناشئة، لكن تغير المناخ والتحول الأخضر يمكن أن يولدا فائزين وخاسرين جددًا في هذا المجال، حيث إن بعض الموارد مثل معادن البطاريات أصبحت مطلوبة، والبعض الآخر أصبح محظوراً أو غير مرغوب فيه. هذه التصنيفات يجب أن يعاد النظر فيها كل عشر سنوات، حيث يمكن أن تتغير نماذج النمو مع مرور الوقت. لطالما كان لدى العديد من البلدان الأصغر آمال في تعزيز الصادرات إلا أنها تتعثر بسبب ضعف السياسات الاقتصادية.

وفي النهاية قد لا يخلو نموذج أنماط النمو من بعض الانتقادات والجدل حول بعض تفاصيله، لكن الحقيقة أن استراتيجية تجميع الكثير من سكان العالم والناتج في فئة واحدة تحت اسم الدول الناشئة لم تعد مفيدة.. حان الوقت لتجربة أسلوب جديد في تصنيف الاقتصادات خارج العالم الغني والمتقدم.