مقال بقلم الدكتور جاب الله أبو عامود: المشرع الدولي والحد من التجريم والعقاب وأثر ذلك على إصلاح العدالة الجنائية

الدكتور جاب الله أبو عامود
الدكتور جاب الله أبو عامود

التجريم والعقاب سلاح يدافع به المشرع عن المجتمع حيث يحرم كل ما يضر المجتمع الذي يعيش فيه فيحافظ بذلك على القيم والمصالح التي بدونها ينهار المجتمع وتسقط الدولة.


ومما لا شك فيه أن كل مشرع يختلف في تقدير تلك القيم من مجتمع لآخر، فمثلا هناك من الأفعال التي يجرمها مجتمع دون أخر فنجد الفعل مباح في بلد ومجرم في أخرى.
إلا أنه مع تطور العلاقات بين الدول وتشابكها بسبب ثورة الاتصالات الرهيبة فقد أصبح العالم بأكمله اليوم قرية صغيرة وأصبح المجتمع الدولي كله يتأثر بما يدور فيه وكأنه بلد واحد، وكان لذلك التطور أثر واسع؛ فلم يعد المشرع الداخلي فقط هو وحده من يتمتع بسلطة التجريم والعقاب، بل وأصبح للمشرع الدولي من السلطة أن يقاسمه في ذلك، وله أيضاً أن يحد مما يقوم به المشرع الداخلي من تجريم وعقاب حفاظاً على الحقوق والحريات العامة.
حيث أصبحت المصلحة الدولية وقيم المجتمع الدولي أهم وأوسع من تلك التي يحميها المشرع الداخلي، ففي مجال حقوق الإنسان وتمتعه بحرياته الأساسية نجد لهذه السلطة الدولية أوسع النطاق، بل وتفرض على الدول ما يجب عليها القيام به للحفاظ على هذه الحقوق والحريات.
وقد أصبح لتطور هذه الحقوق واتساع نطاقها في العصر الحديث ما يجعل منها ما يمس كيان البشرية جمعاء وأوجبت الحفاظ عليها، فلم تعد دولة من الدول تستطيع مخالفة أو الجور على هذه الحقوق، وأصبح هناك الكثير من المنظمات والكيانات الدولية مهمتها الحفاظ على هذه الحقوق ومراقبة الدول في تشريعاتها وسياستها حتى لا تجور على حق من هذه الحقوق أو تحد من هذه الحريات.
ولعل ما يعيشه مجتمعنا العربي -بل والأفريقي- الآن من هشاشة الأنظمة القانونية التي أصبحت غير قادرة على حماية قيمها المجتمعية وأصبحت دولة القانون –بمفهومها السلطوي– غاية في ذاتها، حيث لم تعد وسيلة لتحقيق العدل والحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان.
فالدول وما تتمتع به من سلطات (تشريعية – قضائية – تنفيذية) تهدف إلى حماية النظام السياسي فيها ولم تعد تستهدف حماية الإنسان وحرياته.
وأصبح التجريم العقاب يطول أفعالاً كانت في ذاتها حقوقاً، بل وهناك كثير من الدول ما يعتبرها من الحقوق الأساسية مثل حرية التجمع وحرية الرأي والتعبير، فهي حقوق مكفولة وحريات معتبرة، فالحرية حق في الثبوت والحق حرية في التصرف؛ فكفاح الشعوب من أجل ترسيخ بعض القيم والمبادئ لا يعني رفض الواقع، بل يعني السعي بمطالب اليوم لتصبح حقوق الغد، وبالتالي ربط كفاح الماضي وسعي الحاضر بأمل المستقبل.
وعلى ذلك لم يقف الضمير الدولي مكتوف الأيدي دون حراك أمام كل ما يدور حوله، بل تدخل المشرع الدولي للحد من ذلك السلاح المسلط على الحقوق والحريات من قبل المشرع الداخلي بالنص على حماية هذه الحقوق والحريات في صورة معاهدات دولية تتمتع بصفة الإلزام حتى على تلك الدول التي لم توقع عليها ، فهي في ذاتها تقنيين للعرف الدولي أُلبس ثوب المعاهدات ليكون في صورة نصوص مكتوبة ، فهي معاهدات شارعة تحمي الإنسان وتلزم الدول، وضع لها المجتمع الدولي طرق للمراقبة لحساب كل من يخالفها؛ فلا يمكن أن يتحقق السلام من دون عدالة ولا يمكن أن تتحقق العدالة من دون قانون ولا يمكن أن يكون للقانون أي معنى إذا لم يحمِ الإنسان ويكفل حقوقه ويدافع عن حرياته.
وقد يرى البعض أن ذلك مخالف لمفهوم سيادة الدولة التي لا تعلوها سيادة إلا أن مفهوم السيادة لم يعد قاصر على ذلك التعريف التقليدي بأن الدولة وحدها هي صاحبة الحق المطلق والسلطة الأعلى فيما تقوم به من تشريع بل أصبح المجتمع الدولي يوجب عليها التزامات ويفرد لها جزاء مثلها مثل الفرد في المجتمع الداخلي، فالسيادة الجامعة للدول أعضاء المجتمع الدولي أصبحت الأن أعلى من سيادة الدولة منفردة وأصبح للمجتمع الدولي سلطة التشريع والعقاب.
ولعل ذلك كله يعكس أثر هذه المعاهدات على إصلاح العدالة الجنائية بوضعها حداً للتجريم العقاب – باعتبارها عقوبة – على تلك الأفعال التي لم تعد مجرمة لعدم تشكيلها خطورة على المجتمع، فما بلك بتلك الأفعال التي أصبحت حقوق يجب أن يتمتع بها الفرد بكل حرية.
وفي مصر هناك الكثير من القوانين والنصوص الجنائية التي تتعرض للمواطن في حقوقه وحرياته بل وهناك ما يخالف معاهدات ومواثيق دولية صدقت عليها مصر، ومع ذلك لم يتنبه المشرع الداخلي لها، بل وعلى الرغم مما قامت به البلد من ثورة شاملة كانت تستهدف في المقام الأول الإصلاح بكل نواحيه -بما في ذلك الإصلاح التشريعي- ما زال هناك تضييق على الحقوق والحريات بالمخالفة للتشريع الدولي، لذلك ندعو المشرع لإعادة النظر في قانون العقوبات وتنقيحه من مثل هذه النصوص التي لا تتفق والشرعية الدولية للعصر الحديث.