مقالات د/ ياسر حسان

مقال بقلم د/ ياسر حسان:إذا كنت قد تجاوزت الثلاثين من العمر فعلى الأرجح أنك لن تعيش هذا الزمان.. العالم عام ٢٠٦٩

مع انخفاض تكلفة إضافة رقائق الكمبيوتر إلى الأشياء فإن أجهزة مراقبة الطفل آلات صنع القهوة ساعات قياس أداء الجسم عدادات الطاقة حتى الملابس الكتب البرادات وتعابير الوجه ستؤدي جميعها إلى إنشاء نقاط
مع انخفاض تكلفة إضافة رقائق الكمبيوتر إلى الأشياء فإن أجهزة مراقبة الطفل آلات صنع القهوة ساعات قياس أداء الجسم عدادات الطاقة حتى الملابس الكتب البرادات وتعابير الوجه ستؤدي جميعها إلى إنشاء نقاط

الدكتور ياسر حسان سياسي واقتصادي


إذا كنت قد بلغت -وقت قراءة هذ المقال- الثلاثين من العمر فعلى الأرجح أنك لن تكون حاضراً لتشاهد هذا العصر ولتتعرف على هذا التحول الرقمي الهائل، وطبعاً لا أستثني نفسي من الفرضية بما أنني تجاوزت الأربعين، لكنها الطبيعة البشرية التي تعشق قراءة المستقبل وتوقع المجهول، سواء كنا نتطلع إلى معرفة المستقبل لمدة 50 عامًا أو 50 دقيقة.

ومن المعروف أن جميع الحضارات من القديم إلى الحديث كان لديها بعض التقاليد العرافة أو قول الطالع، لكن في هذه الأيام والأيام التي تليها لدينا نماذج بيانات وتحليلات إحصائية ونماذج محاكاة يمكنها التنبؤ بالمستقبل وإطلاعنا على ما سيحدث.

ابتكارات جديدة مثل السيارات ذاتية القيادة وتقنية الذكاء الاصطناعي والروبوتات التي يمكنها العمل بشكل وثيق مع البشر وغيرها.. سوف ستحكم العالم في هذا العصر، لكن الأهم الذي سيقود كل هذا هو "ثروة البيانات". لقد أصبحت البيانات هي النفط الجديد والثروة القادمة لمن يمتلكها، وبات من الواضح أنه في غضون 50 عامًا سيكون حجم البيانات التي يتم جمعها عنا أكبر بكثير مما هو عليه الآن.

بحلول منتصف القرن الحالي سوف يصبح كل سكان الأرض في كل مكان يذهبون إليه مصدراً شاملاً وعالي الجودة وغنيًا بالمعلومات للمعالجات الرقمية المتقدمة. مع انخفاض تكلفة إضافة رقائق الكمبيوتر إلى الأشياء، فإن أجهزة مراقبة الطفل، آلات صنع القهوة، ساعات قياس أداء الجسم، عدادات الطاقة، حتى الملابس، الكتب، البرادات وتعابير الوجه، ستؤدي جميعها إلى إنشاء نقاط جمع معلومات ثم تحليل بيانات. في عام ٢٠٦٩ ستكون كاميرات المساحات العامة وأعمدة الإنارة وواجهات المحلات وإشارات المرور مجالًا لرصد وتحليل بيانات كل من تقع عليهم عدسات كاميراتهم.

بعد خمسين عاماً من الآن ستكون أجهزة الكمبيوتر أكثر قوة بكثير مما لدينا الآن وسوف تطغى على القواعد التي تحكمنا الآن. فعلى الرغم من أن قانون "القاعدة الذهبية" لمورغان مور -أحد مؤسسي شركة "أنتل" العملاقة- التي تستند إلى أن قوة الحوسبة تتضاعف كل عامين، قد تباطأت في الآونة الأخيرة، إلا أن الرهان الآن على أجهزة كمبيوتر مستقبلية بتكنولوجيا مختلفة عما توقعه "مور" نفسه، وسوف تكون أكثر قوة وأرخص من نظيراتها الحالية.

ومع تحسن التكنولوجيا سوف تستمر الشركات الكبرى في الحصول على حصص غير متناسبة من القوة والقيمة المالية بسبب امتلاكها للبيانات الضخمة؛ بيانات أكثر بكثير بالإضافة إلى أجهزة كمبيوتر أفضل بكثير تساوي طرقًا أكثر تعقيدًا بكثير لفهمك وتحليلك. سيشتمل الكثير من هذا على عملية تحديد نمط حياتك؛ فالكمبيوترات العملاقة سوف تتمخض في مجالات واسعة من المعلومات العشوائية لرسم ارتباطات غريبة ومتفرعة بين البيانات التي تقوم بإنشائها لفهم ما تحب وما تكره، ومعرفة رغباتك بل وطموحاتك المستقبلية أيضاً.

والقوة الدافعة وراء ذلك هي نقطة بسيطة ولكنها قوية، فالناس يفعلون الأشياء، ويشعرون بالأشياء، ويفكرون في الأشياء، ويشترون الأشياء لأسباب قد لا يفهمونها هم أنفسهم.

سوف يكون كل فرد عبارة عن مجموعة من الارتباطات والعلاقات والسلوكيات تقوم برامج التحليل النفسي بربطهم مع بعضهم البعض، ليس من الضروري أن نفهم جمعياً ماذا حدث وكيف حدث هذا الارتباط، كل ما يهم هو أن هذا الارتباط موجود، والدليل نتائج معالجات الكومبيوتر، ستصبح الحقيقة المؤكدة هو ما تقوله المدخلات والمخرجات من معالجات الكمبيوترات العملاقة.

بعض الأمثلة النظرية لما ستقوله التحليلات في ٢٠٦٩: -  ستقول معالجات الكمبيوتر إن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و35 سنة، ويتناولون اللحم يوم الخميس ويقل معدل ضربات القلب عن ... فمن المرجح أن يكونوا مدمنين على الأدرينالين وهؤلاء…

- ولا تسأل لماذا من المرجح أن يكون الأشخاص الذين شاهدوا مقاطع فيديو YouTube بين الساعة 7 والساعة 9 صباحًا كمراهقين وسافروا بواسطة وسائل النقل العام من التقليديين والمؤيدين للحزب السياسي..

كل ما سبق هو نتائج برامج التحليل والمراجعة للسلوك البشري، وسيتم استنتاج المزيد من هذه الأنماط البشرية، بمعنى أن الأنظمة التلقائية ستولد رؤى حول الأشخاص استنادًا إلى دراسة وتحليل سلوكهم الشخصي وليس لأن هؤلاء الأشخاص صرحوا بما يريدونه بشكل علني.

من الأمثلة الجيدة على ذلك ما يقوم به محللو جامعة كامبريدج لمحاولة إنشاء قاعدة للتحليل النفسي تبتكر شخصيات نمطية محسوبة على أساس الاستطلاعات والإحالات التبادلية بين المعلومات، وهو ينافس ما تقوم به فيسبوك التي ترغب في بناء نماذج شخصية تنبؤية مبنية على تفاعل الفرد على موقعها.

في عام ٢٠٦٩، سيكون علم النفس السيكولوجي واحدًا من مجموعة من التقنيات التي تتوقع وتستنتج سلوك كل شخص على وجه الأرض دون علمه، مثال ذلك تعبيرات وجهك تعطي بعداً عن مشاعرك الداخلية.

ويطلق على أحد مجالات البحث في هذا المجال "التحليل العاطفي" الذي يحاول تحديد الحالات العاطفية من الصور والفيديو عن طريق تحليل تعابير الوجه لدي كل شخص. ستحدد بيانات ساعات قياس أداء الجسم، بالإضافة إلى البيانات الناتجة عن الملابس والثلاجة والمتر الذكي متى تكون مكتئبًا، مع أخذ بيانات من الثلاجة والسيارة الذكية وتقويم العمل وتعابير الوجه، بل وحتى المرحاض.

سيطلق التليفزيون الذكي الخاص بك إعلانًا مخصصًا عن شراء هذا العطر الجديد في اللحظة التي بدأت تشعر أنك تريد هدية لشخص ما، وصدقني لن تعرف كيف علم التليفزيون بذلك.. وأي إعلانات سوف تتلقاها من خلال وسائل الإعلان سوف تكون لك أنت وحدك، وليس لأنك ضمن شريحة مستهدفة لحملة إعلانية تقليدية.

بطبيعة الحال، سوف لن يترك السياسيون هذه التقنيات والمعلومات دون استغلالها، وبلا شك إننا ننطلق بسرعة نحو "عقد آسيوي" أو ربما عقدين، وهي فترة تتزامن إلى حد كبير مع عصرنا الحالي في السياسة العالمية  G-Zero، وهو المصطلح الذي يهدف إلى الإشارة لعالم لا يوجد فيه بلد واحد أو مجموعة من البلدان لديها القدرة والإرادة -اقتصاديا وسياسيا- على توجيه جدول أعمال عالمي حقيقي. والدول الآسيوية تفتقر بشكل أساسي إلى القيادة العالمية، بمعني أنه من الناحية العملية لا يوجد بلد (أو مجموعة بلدان) في آسيا تقود الاستجابات العالمية للمشاكل الدولية مثل تغير المناخ أو التنمية المستدامة؛ لذلك في الوقت الذي تستمر فيه الاقتصادات الصناعية المتقدمة في النضال من أجل تحقيق التوازن بين ديناميكية الديمقراطية وتزايد العولمة على قطاعات كبيرة داخل مجتمعاتها، ويبدو أن نهج الصين الرأسمالي الحكومي سيستمر في الانطلاق دون الاكتراث لمثل هذه المشاكل.

ولكي نفهم فعلاً كيف سيكون شكل العالم في عام 2069، فإن السؤال الأول الذي نحتاج إلى طرحه هو ما ستفعله الولايات المتحدة في السنوات الخمس إلى العشر القادمة، هل ستقوم الولايات المتحدة بدور استباقي في المساعدة على تشكيل النظام العالمي القادم، والعمل بالتنسيق مع اللاعبين الجيوبوليتيكيين الأساسيين الآخرين لضمان بقاء العالم (نسبيًا) سلميًا، واستمرار تدفق التجارة والأفراد والأفكار عبر الحدود؟ أم أن الولايات المتحدة ستتخذ موقفاً دفاعياً أكثر وتنسحب بعيداً عن المجتمع العالمي وتختار استخدام ثقلها الاقتصادي والعسكري المستمر في المقام الأول لحماية مصالحها الخاصة، وأحياناً بالقوة عند الضرورة؟.

حتى الآن، تميل الولايات المتحدة نحو النهج الأخير، وإذا كنت تعتقد أن الجغرافيا السياسية في عام 2019 ستكون فوضوية، فما عليك سوى الانتظار حتى عام 2069 لأن الأمور لن تسير بهذا الشكل، لأنه مع استمرار التقدم التكنولوجي سيكون لدى العالم المزيد والمزيد من أصحاب المصلحة القادرين على دفع التطورات الجيوسياسية، ولن يكون العديد منهم حكومات وطنية؛ هذا لا يعني أن الدول كما نعرفها اليوم سوف تنهار، ولكن هذا يعني أنها ستواجه منافسة أكبر بكثير من أصحاب مصالح لهم تأثير كبير دون أن يكون لهم حدود جغرافية معروفة.

وفي عام ٢٠٦٩ سيكون متوسط الأعمار في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان والصين أكبر بكثير، وربما يصل تعداد سكان أفريقيا إلى نصف سكان العالم، وستكون ذات أعمار صغيرة جدًا؛ لذلك ربما يأتي كل الابتكار من أفريقيا بعد 50  سنة من الآن.

لننتقل إلى عالم التجارة، فأمازون لن تكون كما هي الآن، فرغم أن أمازون تحتل الترتيب الرابع ضمن أكبر عشر شركات حول العالم، إلا أن طموح الشركة يذهب إلى ما هو أبعد من الهيمنة على الأسواق؛ فهي تخطط للتحكم في البنية التحتية الأساسية التي تعمل عليها التجارة حول العالم. إن أمازون تحركنا نحو المستقبل الذي لا يحدث فيه بيع وشراء السلع في سوق عام مفتوح، بل على منصة خاصة تسيطر عليها شركة أمازون فقط، والمعركة لن تقتصر على التجارة فقط، بل هناك عاصفة تختمر أيضًا في المعالجات السحابية، نظرًا لأن العديد من أكبر شركات الإنترنت مثل Netflix وComcast  تعتمد في نشاطها على خدمات Amazon Web Services  وهو مجال تتنافس فيه أمازون بقوة مع مايكروسوفت ثالث أكبر الشركات في العالم من حيث القيمة السوقية.

والمشكلة تكمن في أنه مع تحسن تكنولوجيا البيانات الضخمة، ستستمر الشركات الكبيرة في جذب أكثر من حصة نسبية في معالجة البيانات ودعم التمويل؛ لهذا لن يكون للشركات الصغيرة مكان في العصر الجديد، الشركات الصغيرة سوف تكافح، وفي الحقيقة هي تكافح منذ الآن، فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، انخفض المعدل السنوي للشركات الناشئة الجديدة من 13٪ إلى أقل من 8٪، كما انخفضت نسبة العمالة في الشركات التي تضم أقل من 100 عامل بنسبة 5٪.

وفي الوقت نفسه تزدهر الشركات الكبيرة، وتزدهر أرباحها وقيمتها السوقية كل يوم، والسبب أنها تمتلك نشاطًا اقتصاديًا أكبر وتاريخًا أطول، لذا فهي تمتلك المزيد من البيانات ليتم تحليلها، وفي الوقت نفسه لا يمكن لجميع قوة الحوسبة في العالم إبلاغ مستثمر عن شركة صغيرة لها تاريخ قصير وعدد أقل من البيانات.

وفي الطب لن تكون السمنة وأمراض السكر مستعصية، يقول عالِم الكيمياء الحيوية إيلان ساميش إن مرض السكري يقتل أكثر من الرصاص كل عام، والعلماء يميلون إلى التركيز فقط على علاج الأمراض التي يسببها. لكن الأهم هو علاج الطعام الذي يسبب مرض السكري، والعلم الآن يعمل على تصميم وإنتاج بروتينات متطابقة مع البروتينات الموجودة في الطبيعة، وفريق ساميش يعمل الآن على إنتاج بروتين جديد تمامًا يسميه "أفضل مادة في العالم"؛ وهو مشتق من الحمض النووي المعاد هندسته في نبات موجود في ماليزيا، وبالوزن هي تعادل 16000 مرة كحلوى السكر، لكن يكاد 0.375 ملليغرام من هذا البروتين الحلو أن يعادل ملعقة صغيرة من السكر، ويمكن للجميع تقريباً وقتها أن يستمتعوا بالمشروبات الغازية المحلاة بالبروتين، ومنتجات الألبان، وحتى قطع الشوكولاتة الفاخرة دون الحاجة إلى القلق بشأن مرض السكري أو السمنة.

وتعمل الآن إحدى الشركات الناشئة المتخصصة في تكنولوجيا الأغذية في إسرائيل في مختبرها في تل أبيب على إنشاء جزيئات بروتينية من نبات استوائي نادر يمكن أن يكون أكثر حلاوة من السكر آلاف المرات، وتقول الشركة إنه من خلال تخمير هذه البروتينات في الكائنات الدقيقة، مثل الخميرة، يمكن أن تنتج بديلاً جديداً للسكر دون أن تكون له آثار جانبية من المحليات البديلة الموجودة، والتي ثبت أن بعضها مُسرطن أو تسبب زيادة الوزن.

وطبعاً ستختفي أمراض مستعصية مثل السرطان حيث ستتمكن الخريطة الجينية من توقع حدوث مثل هذه الامراض بل وتجنب الإصابة بها، وستظهر أمراض جديدة مثل إدمان التكنولوجيا، وستكون مشكلة عدم استخدام التكنولوجيا بحكمة أحد أهم أمراض هذا العصر.

من سيعيش في هذا الزمن سيشتكي من أن هذا النظام غير عادل، غير قانوني، زاحف، خارق للخصوصية. وسيكون هناك بالطبع موجة متزامنة من الإجراءات المضادة القائمة على التكنولوجيا لمنع التسلل الي خصوصياتك، قد يكون هناك رفض اجتماعي كامل لتقنيات التتبع هذه، لكن التجربة تشير إلى أن هذا لن يؤدي إلا إلى تأخيرها فقط لا إيقافها، وإذا كنت تتخيل التقنيات التي ستحدد حياتك اليومية خلال 50 عامًا، فمن الواجب الاعتراف بآن التكنولوجيا المتقدمة لا يمكن تمييزها عن السحر، قد تتخيل عالمًا عام 2069 يتفجر بأشياء قد نعتبرها اليوم خيالية.