فورين بوليسي: القدس ضحية للصراع الإيراني - السعودي

اهتمت مجلة "فورين بوليسي" بتداعيات إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، القدس المحتلة عاصمةً لإسرائيل، معتبرةً أن القضية الفلسطينية تذهب مرة أخرى ضحية للصراع الإيراني - السعودي، حسبما جاء في مقالة للكاتبة كيم غطاس.
غطاس، تعود إلى الخلف قليلاً، مستذكرةً لحظة نزول مرشد الثورة الإيرانية الخميني في مطار طهران على متن طائرة للخطوط الجوية الفرنسية إثر الإطاحة بنظام الشاه عام 1979، بعدها بأيام قلائل تهبط طائرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، كأول شخصية فلسطينية وأجنبية تزور طهران بعد الثورة، حيث كان مدفوعاً وقتها بسعيه للحصول على دعم إيراني للمد الثوري الفلسطيني الذي كان يقوده، ووقتها قال عرفات للصحفيين إنه شعر كما لو أنه هبط في القدس.
في اليوم التالي مباشرة، سُلمت البعثة التجارية الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية، يومها قال عرفات: "اليوم نشهد انتصاراً للثورة الإسلامية في إيران، وغداً سنكون المنتصرين في فلسطين وسنحررها تحت قيادة الإمام الخميني".
لقد أدرك الخميني حتى قبل وصوله إلى طهران، أن القضية الفلسطينية هي الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي وهي الوحيدة التي يمكن من خلالها حشده حوله حتى خارج نطاق طائفته الشيعية. ومنذ عام 1979، كانت هذه القضية في صلب التنافس السعودي - الإيراني بإطار سعيهما للقيادة الإقليمية.
جاء قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بإعلان القدس عاصمةً لإسرائيل، فرصة أخرى لكل من الرياض وطهران من أجل استثمارها في إطار التنافس القائم بينهما، هكذا كان يُنظر إلى الأمر، إلا أن الانشغال السعودي - الإيراني فيما بينهما يبدو أنه أثَّر في طريقة تعاطي العاصمتين مع القرار، وربما كان ذلك واحداً من الأسباب التي دفعت ترامب إلى اتخاذ قراره في هذا الوقت.
على مدى عقود، خدمت القضية الفلسطينية طموحات إيران الإقليمية؛ فمنذ عام 1979 جعلت إيران يوماً سنوياً للقدس في إطار دعمها للفلسطينيين، وأسست قوة خاصة من النخبة أُطلق عليها "فيلق القدس" تابعة للحرس الثوري الإيراني، كما وسَّعت نفوذها بالعالم العربي من خلال دعم وتسليح حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بالإضافة إلى حزب الله اللبناني.
في بداية الثورة الإسلامية بإيران، بدت السعودية وكأنها مستعدة للتعاون المشترك معها بشأن قضية فلسطين، حتى نقلت صحيفة "الرأي العام" الكويتية عن عرفات قوله: إن "السعودية تشيد بالثورة الإيرانية".
إلا أن هذه اللحظة لم تدم طويلاً وانتهت عندما أدرك السعوديون خطورة المشروع الذي يقوده الخميني.
فلقد حاول السعوديون، في بداية الثورة الإيرانية، مواكبتها ومواكبة مواقفها المتشددة حيال القضية الفلسطينية، وخاصة بعد أن أعلنت السعودية قطع علاقاتها مع مصر عقب توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، لكن بقيت المملكة، رغم ذلك، متحفِّظة حيال الكفاح المسلح ضد إسرائيل، وحرصت على تقديم مبادرات سلام، كالتي قدمها الملك فهد عام 1982، وأيضاً مبادرة السلام التي قدمها الملك عبد الله عام 2002.
وكانت السعودية تعمل على أن تُشكّل قوتها على أساس كونها راعية للعالَمين العربي والإسلامي وقضاياه المختلفة، وعلى رأسها قضية فلسطين.
أما اليوم، فيبدو أن السعوديين أكثر تقييداً من ذي قبل حيال قضية فلسطين، ليس لأنهم ملتزمون بتحالف قوي مع واشنطن، وإنما أيضاً لأن تركيزهم اليوم منصبٌّ على كيفية مواجهة إيران؛ بل وصل الأمر إلى تقارير أفادت بأن السعودية تتعاون أمنياً مع إسرائيل لمواجهة النفوذ الإيراني، وهو أمر بات أولوية استراتيجية سعودية أكبر من الدفاع عن القدس ورمزيتها.
بعد أيام من إعلان ترامب قراره بشأن القدس، زار السعوديةَ روبرت ساتلوف، مدير معهد دراسات الشرق الأدنى في واشنطن، حيث قال بعد عودته من هناك إنه لمس استياءً كبيراً من المسؤولين السعوديين حيال قرار ترامب بشأن القدس، إلا أن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، لم يتطرق إلى هذه القضية إلا بشكل بسيط، وكان تركيزه على ضرورة قطع رأس الأفعى، في إشارة إلى إيران.
هذا لا يعني، بحسب الكاتبة، أن السعودية وحلفاءها يشعرون بالقلق من تأثيرات قرار ترامب على المنطقة، رغم أنه وقبل الإعلان تحدث ترامب مع الملك سلمان، وحذره الأخير من تلك الخطوة باعتبار أنها ستكون هدية للمرشد الأعلى في إيران.
وبالفعل، سعتْ إيران لاستخدام قرار ترامب كورقة لصالحها وكسب نفوذ دبلوماسي وسياسي على حساب السعودية، ففي 13 ديسمبر حضرت ممثَّلةً برئيسها، حسن روحاني، قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول بشأن قرار ترامب، في وقت استغل فيه وزير خارجيته، جواد ظريف، عدم الحضور السعودي إلا من خلال مسؤول صغير، ليكتب مغرداً: "مشاركة عالية المستوى في قمة منظمة التعاون الإسلامي، رغم بعض الاستثناءات".
لكن، هل يمكن فعلاً أن تحمل إيران راية الدفاع عن القدس بعد رعايتها المليشيات الوحشية في العراق ودعمها نظام بشار الأسد؟
في الجمعة التي تلت قرار ترامب، حشد حزب الله أنصاره في الضاحية الجنوبية لبيروت للتّظاهر ضد القرار ورفع هتافات "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل"، ودعا زعيم الحزب، حسن نصر الله، إلى انتفاضة جديدة، إلا أن الحزب لم يتمكن من تنظيم احتجاجات جديدة، ما يشير إلى أنه وبعد سنوات من قتاله إلى جانب الأسد باتت قاعدته تعِبة، ومن الصعب حشدها.
وبعد يوم واحد من إعلان ترامب، ظهر قيس الخزعلي، قائد مليشيا شيعية عراقية، على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية إلى جانب مقاتلي حزب الله، معلناً استعداد مليشياته للوقوف إلى جانب الشعب اللبناني والقضية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
خطوة كان يمكن بالماضي أن تلقى الكثير من الترحيب في العالم العربي، إلا أن ما جرى بعد ذلك يثبت أن تدخُّل حزب الله في سوريا، جنباً إلى جنب مع إيران، وقمعه العنيف للشعب السوري السنّي، قد أضعفا ادعاءاته بالمقاومة، ولم يعد لنصر الله وحزبه تلك الشعبية الجارفة التي حصل عليها، خاصة عقب حرب 2006 ضد إسرائيل.
لا تزال القدس رغم كل شيء، زهرة المدائن كما وصفتها فيروز، فهي القضية الوحيدة التي يمكن لها أن توحد الناس من جميع أنحاء العالَمين العربي والإسلامي، أما بالنسبة للسعودية وإيران وبسبب تنافسهما الجيوسياسي، فإن القدس لا تعني لهما الشيء الكثير، ومرة أخرى يجد الفلسطينيون أنفسهم وحدهم.