الانهيار المالي يسيطر على المجتمع المصري بعد عام من تعويم الجنيه

في الوقت الذي بلغ فيه التطور أوْجه بالعالم، انصبَّ حديث المسؤولين المصريين حول تكلفة المعيشة التي تُبقي الإنسان على قيد الحياة ووصوله لمرحلة يرونها أعلى وهي "الفقر المادي"، وسط تحذيرات يطلقها خبراء من أن يتسبب الفقر في انهيارات بالمجتمع يقودها الفساد.
رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أبو بكر الجندي، قال: "الإنسان لو عايز يبقى على قيد الحياة يصرف 322 جنيهاً شهرياً (18 دولاراً)، ولو عايز يلبس ويسكن ويركب مواصلات يكفيه 482 جنيهاً (27 دولاراً)".
وأكد في تصريحات صحفية أن "هذا الكلام مبنيٌّ على دراسات لأساتذة تغذية، وتكفي للمواد التي تُبقي المواطن على قيد الحياة، ويعتبر هذا هو خط الفقر الغذائي، وهناك مرحلة أعلى يدخل فيها المسكن والملبس والمواصلات، وهي خط الفقر المادي بـ482 جنيهاً".
"الجندي"، أكد أن "67% من الأسر المصرية تصرف 20 ألف جنيه سنوياً (1136 دولاراً)، و15% من المواطنين يصرفون 50 ألف جنيه (2840 دولاراً)".
هذه التصريحات تتزامن مع مرور عام على تحرير الحكومة المصرية سعر صرف الجنيه في 3 نوفمبر 2016، وما تبعه من أزمات اقتصادية وارتفاع كبير في الأسعار، وانخفاض القيمة الشرائية لدخول المواطنين، وعدم قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية.
ويرى خبراء اقتصاديون أن تصريح رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لا يمثل واقع المصريين، وأنه تصريح "عبثي واستفزازي" ويستوجب الاعتذار عنه، وأن مصر عاشت عاماً من الفشل الاقتصادي، وكان هو الأسوأ تأثيراً على دخول المواطنين.
- عَوزٌ واستدانة
ويشكو محمد رزق، (43 عاماً)، من ضيق ذات يده وعدم قدرته على تدبير احتياجات أسرته المكونة من أربعة أفراد، ولجوئه إلى الاستدانة ممن حوله شهرياً.
ويُشير، إلى أن راتب عمله الحكومي، الذي يتجاوز 2000 جنيه بقليل، ينفد قبل مرور عشرة أيام من قبضه، قائلاً: "بعد دفع إيجار السكن وفواتير الكهرباء والماء والغاز ومصروف البيت الأساسي، ينفد الراتب بحلول اليوم العاشر من الشهر الجديد".
وأكد رزق، الذي يعمل بالشركة القابضة للصناعات الغذائية، أنه اعتمد عدة أشهر على مبلغ مالي كان يدخره وبعض مصوغات زوجته الذهبية لاستكمال احتياجات أسرته بعد نفاد راتبه في أيام معدودة، وذلك قبل أن تنفد مدخراته ويلجأ إلى الاستدانة.
وتساءل: "إلى متى سأظل أستدين حتى أوفر احتياجات أسرتي الأساسية؟! وكيف سأسدد تلك الديون في ظل تدنِّي راتبي وغلاء المعيشة وعدم تناسبه مع احتياجاتنا الكثيرة؟!".
وعن تصريح رئيس الجهاز المركزي بأن مبلغ 482 جنيهاً يكفي لاحتياجات المواطن الشهرية، قال رزق: "سأعطيه راتبي كاملاً ويدير هو المنزل شهراً واحداً وليأخذ ما يتبقى منه!".
- لا يتفق مع الواقع
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي سرحان سليمان أن تصريح رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يعتبر تصريحاً لمسؤول لا يعيش وسط المصريين ولا يعرف معاناتهم، كما أنه لا يتناسب مع الواقع.
وشدد، على أن هذا التصريح يستوجب الاعتذار عنه، لافتاً إلى أن 482 جنيهاً التي حددها لا تكفي ربع تكلفة المأكل شهرياً، وأنها تكفي لتكلفة مواصلات موظف بعد ارتفاع أسعار جميع المواصلات.
وأوضح سليمان أن الحد الأدنى لمستوى المعيشة الضرورية (مأكل وملبس ومسكن)، في ظل ما يعيشه المصريون من غلاء، يجب ألا يقل عن ثلاثة آلاف جنيه شهرياً، مؤكداً أن الحد العالمي لتلبية ضروريات الحياة أعلى من ذلك بكثير.
وذهب للقول إن "الموظف الذي يحصل على دخل ثلاثة آلاف جنيه شهرياً هو فقير ويعاني، ويدخل في باب الادخار السلبي؛ أي يستلف أو يعمل أكثر من عمل لتلبية أساسيات احتياجاته".
وأكد الخبير الاقتصادي أن "دخل الفرد بالشريحة الوسطى خمسة آلاف جنيه، وأن هاتين الشريحتين تمثلان 90% من الشعب المصري".
كما لفت إلى أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قد أكد أن هناك 26 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، وبعد ارتفاع الأسعار ارتفع عددهم إلى أربعين مليوناً، فضلاً عن أن هناك 25 مليون مصري يعيشون في فقر مدقع، دخلهم الشهري أقل من 1500 جنيه.
- بيع الأصول والمدخرات
سليمان أكد أيضاً، أنه "منذ تعويم الجنيه، ارتفعت الأسعار بشكل غير عادي على جميع الأوجه، ولم يحدث زيادة بالأجور تعادل تلك الزيادة بمستلزمات الحياة".
وأردف: "لذلك، قيمة دخل المواطن انخفضت ومستوى معيشته انخفض أيضاً، كما أن قدرته على الحصول على الكم نفسه من السلع قلّت؛ فلجأ البعض إلى بيع أصولهم ومدخراتهم؛ للوصول إلى الحد الأدنى لمستوى المعيشة".
كما أكد أن "أكبر مصيبة أصابت الدخول هي تعويم الجنيه؛ فانخفاض قيمة الجنيه خفّض قيمة ما يمتلكه المواطنون من نقود"، موضحاً أنه كان ضرورياً أن تتخذ الحكومة إجراءات لحماية الفقراء بعد التعويم.
وشدد سليمان على أن الحل يكمن الآن في دعم الفقراء وإنشاء مشاريع إنتاجية لهم.
- انحدار اقتصادي وأزمات اجتماعية
في السياق ذاته، وصف الخبير الاقتصادي وائل النحاس تصريح رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بـ"الاستفزازي والعبثي وغير المنطقي والبعيد عن الواقع".
وأكد أن الأرقام التي أعلنها تناسب "إنسان الغاب"، وتكفي مواطناً جاهلاً يعيش في العصور الوسطى، مطالباً بخفض رواتب المسؤولين إلى المبلغ الذي حدده رئيس جهاز التعبئة والإحصاء.
وأشار النحاس إلى أن مستويات المعيشة تختلف من مكان لآخر بمصر، وأن تكلفة الخدمات الأساسية تختلف أيضاً من منطقة لأخرى؛ "لذلك لا يمكن حساب الحد الأدنى لتلبية احتياجات المواطن الأساسية"، مشدداً على أن الأوضاع الاقتصادية "في انحدار".
وأكد أن "المصريين عاشوا عاماً اقتصادياً فاشلاً بعد تعويم الجنيه؛ إذ ارتفعت تكلفة مستويات المعيشة بشكل كبير، وتم القضاء على الطبقات الاجتماعية بالمجتمع، وتلاشت الطبقة الوسطى، وازدادت شريحة الفقراء ومن هم تحت خط الفقر".
وتابع الخبير الاقتصادي: "كما اختلف مستوى الحياة الاجتماعية، واختفى التكافل الاجتماعي، وزادت معدلات الجريمة"، موضحاً أن "المشاريع والكباري التي تتغنى بها الحكومة كإنجازات، لا تُصلح أوضاعاً اجتماعية واقتصادية متردية".
إلا أنه شدد على أن "الخطورة تكمن في اعتماد المواطنين على المدخرات كعائد ومصدر للدخل، وهو ما يُعتبر هزة للقطاع المصرفي في حال سحب المواطنون منه أموالهم؛ للبحث عن عائد أكبر أو لصرفها".
ولمَّح النحاس إلى أن مصر على وشك الدخول بمرحلة عصيان مدني وعدم دفع ثمن الخدمات التي يستخدمونها؛ بعدما لجأ المواطنون إلى تلبية أساسيات الحياة وعدم دفع فواتير الخدمات.
الخبير الاقتصادي ذهب لتأكيد "ضرورة أن تتوقف مصر عن الإصلاح بما يتناسب مع شروط صندوق النقد الدولي؛ لأن إصلاحاته نتائجها سلبية وليست إيجابية على مصر".
كما حذر من تبعات تلك الأوضاع الاقتصادية: "فالمصريون عندما يجوعون لا يقومون بثورات من أجل الجوع، ولكن تنتشر بينهم الجرائم المجتمعية والفساد كما هو الآن"، قائلاً: "حال مصر ينطبق عليه مقولة: "من لم يسقط بالثورات سيسقط بالانهيارات".