مقال بقلم د/ ياسر حسان: كيف تذهب أموال الفاسدين دون عودة؟

كيف تذهب أموال الفاسدين دون عودة
كيف تذهب أموال الفاسدين دون عودة

 

لي تعقيب على تسريبات جريدتي النيويورك تايمز والجارديان.. التعليق لا يتعلق بالأسماء فكلنا نعرف أن هذا قليل من كثير لا نعلمه، ولا عن تصريح عمر سليمان أننا شعب غير مؤهل للديمقراطية، لأنه سيادته جلس 20 سنة علي رئاسة جهاز المخابرات دون أن يساهم في جعل الشعب مؤهلًا للديمقراطية، ربما لانشغاله بحساباته في بنوك أوروبا. وبنوك أوروبا وبالذات السويسرية منها هي محور هذا المقال الصغير وسأحكي عن الجانب الغامض والمثير فيها.


ربما لا يعلم أيّ منا ماذا تنتج سويسرا تحديدًا لكي ينعم شعبها بأحد أعلي متوسطات الدخل للفرد في العالم؟ في الحقيقة هي لا تنتج أيّا من السلع الاستراتيجية، لكنها تقدم خدمة فريدة من نوعها وهي أنها قررت أن تكون "خزينة العالم". وفي سبيل ذلك أعلنت نفسها دولة محايدة وقررت أن تكون بلا جيش يحميها، وساعدها في ذلك موقعها المتوسط في قلب أوروبا. هذا الحياد جعلها تخرج نفسها عن صراع القرارات والضغوط السياسية والدولية، وعلي خلاف البنوك الأمريكية التي كثيرًا ما تستخدم عقوبة تجميد الحسابات، نادرًا ما تلجأ البنوك السويسرية خصوصًا والأوربية عمومًا إلى مثل هذه العقوبات.

هذه الميزات جعلت من بنوك سويسرا ملجأ آمنا للحسابات الشخصية والسرية لكثير جدا من السياسيين والمسؤولين الحكوميين الفاسدين حول العالم حيث تتمتع بحماية وسرية لا محدودة، وتظل هذه الأموال التي تقدر بمئات المليارات في أمان تام حتى يُتوفى صاحب الحساب أو تبدأ بوادر ملاحقات قضائية حول هذه الأموال، وهنا تأتي المكاسب للبنوك حيث تشرع في تجميد هذه الحسابات ويكون الوصول إليها في حكم المستحيل.

من الوقائع التاريخية الصعبة حول هذا الموضوع ما حدث لحسابات يهود أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث احتاج أبناء واحفاد أصحاب تلك الحسابات إلى 55 عامًا من النزاعات والمطالبات القضائية حتى حصلوا عام 2005 على أموال جدودهم دون فائدة، أي أنهم حصلوا بعد عقود طويلة ورغم ضغوط اللوبيات اليهودية فقط على أصل المبلغ المودع قبل الحرب العالمية الثانية دون أية تعويضات.

وحكي لي محامٍ دولي مصري عن واقعة بطلها رجل أعمال مصري اسمه "محمد" تٌوفي وكان له حساب في بنك بريطاني به مبلغ 60 مليون جنيه إسترليني، ولأن طريقة كتابة اسم "محمد" في البنك مختلفة عن طريقة كتابة اسم "محمد" في جواز السفر لم يستطع  الورثة الحصول على أموالهم إلا بعد رفع قضية كلفتهم ما يقارب ثلاثة ملايين جنيه إسترليني، ولم يحسم هذا الخلاف سوى فتوى رسمية من الأزهر الشريف قدمت للمحكمة عن كيفية كتابة اسم "محمد" بكل الاحتمالات، وقد أخدت المحكمة البريطانية بهذه الفتوى واسترد الورثة أموالهم بعد سنوات من الدعاوى وفقدانهم عدة ملايين من أموالهم.

الملخص المثير والمحزن في هذا الموضوع هو أن هناك شعوبًا ودولًا تنعم بأفضل رعاية صحية وأفضل ضمان اجتماعي وأعلى مستوى دخل على حساب شعوب ودول أخرى منهوبة وتعيش شعوبها في أسوأ درجات الفقر.

معادلة مؤلمة.. طرفاها شعوب ودول تنعم بأقل معدلات فساد تعيش من خير دول غارقة في أعلى معدلات الفساد، ومحصلة هذه المعادلة المؤلمة  أن هذه الأموال حتمًا لن تستفيد الشعوب المنهوبة منها، وقد لا يستفيد الفاسدون أنفسهم أيضًا منها، لكنها قطعًا ودون شك سوف تفيد بنوك سويسرا.